فن ضد الحرب

"أدعياءُ الحرب كالحرب تماما أولياءُ السلم لا خوفٌ عليهم لا حزَنْ وإذا مرّوا بهم قالوا سلاما وإذا غُمَّ بهم نادوا وطن "
كانت هذه الابيات للشاعر محمد الحسن سالم حميد ، الشاعر الذي وافته المنية مبكراً ، ولم تكن هذه فقط كلماته عن السلام ونبذه للحرب والاقتتال فكتب ايضاً "هذه الارض لنا ولنا متسع حتي السماء فلماذا ولما يغمر الارض حمام الدماء " والكثير من الابيات التي تخللت اشعاره دوت في خنادق القتل والحرب ،فحميد كغيره من الشعراء والفنانين والمثقين السودانين الذين تمترسوا حول ثوابتهم الوطنية يدعون السودانين للتسامح وبناء وطن يسع الجميع ، وكانت هذه رسائلهم الخالدة التي صاغوها للوطن القادم الذي ينام فيه الاطفال دون اختناقهم بدخان حرائق منازلهم .بالاضافة للوعي الوطني الذي شكله اولئك الفنانين كان وعيهم في دور الفنان الرسالي لنقل المجتمعات التي يعيشون فيها الي حال افضل .
من هنا انطلقت فكرة (فن ضد الحرب ) لتحقيق دور الفن في بناء السلام بين المجتمعات السودانية المختلفة بأختلاف ثقافتها وبيئاتها، فلم تكن للحملة بداية محددة فدور الثقافة والفنون في تطوير الحضارة في السودان قديم بقدم هذه الرقعة الجغرافية منذ حضارة كرمة منذ 2200 عام قبل ميلاد وهذا ما اشار اليه البروفيسور السويسري شارل بونية في مبحثة عن مملكة كرمة "وقد خلفت كرمة تراثا حضاريا غنيا في مجالات الفنون والحرف والعمارة ما يقف شاهدا علي التميز الثقافي والأصالة المحلية" شارل بونية، 1997" كما نعلم ان كرمة هي اقدم حضارة معروفة في المنطقة النوبية وهي من الموروث الثقافي الذي نعتز به ، وقد امتد دور الثقافة والفنون في ترسيخ الحضارات التي مرت علي هذه البلاد والتي شكلت في ما بعد موروثاً ثقافياً اغني واثري الساحة الثقافية المعاصرة ،بالاضافة الي التنوع الثقافي والفني والذي يحظي به السودان متميزاً عن غيره من بلدان المنطقة فالحقيقة الماثلة اليوم ان السودان يتمتع ب124 لغة محلية تعبر عن ثقافات مجموعات سكانية مختلفة التي شكلت هذه البلاد "جد في السودان، إلى جانب العربية، ممثلات لكل المجموعات اللغوية الأفريقية الكبيرة، عدا لغات الخويسان " استاذ كمال الجزولي ، وهذه الثقافات التي اوجدت لنفسها فنون تعبرية مختلفة من موسيقي ونقش واشعار كانت كفيلة بأن تكون خام لصناعة ثقافية متطورة تعبر عن السودان الحديث بحدودة الجغرافية الحالية وتخرجه في حلة باهية تكسب الجميع فخر وشرف الانتماء . الي ان استثمار هذه الثقافات في البناء والوطني والتنمية الشاملة غاب تماماً عن الساحة وهيمن عنصر ثقافي واحد علي باقي الثقافات وفقاً لسطوته الاجتماعية والاقتصاديه ويأتي هنا تعريف انطونيو غرامشي للهيمنة لثقافية ""ظاهرة ترمي إلى نشر ثقافة الطرف المهيمن وضرب الثقافات المحلية أو القومية من أجل سيادة نموذج واحد للتفكير ونشر قيم إنسانية معينة عميقة هو تعطيل المعقول في ثقافة معينة عن الإبداع. تسطيح الوعي أي جعله مرتبط بالسطح وذلك متمثل في الصور والمشاهد الإعلامية التي يغلب عليها طابع الإعلان الذي يستفز المشاعر ويحجب العقل بالتالي يؤدي إلى امتلاك الذوق وقولبة الفكر ومن ثم تغيير أنماط السلوك ويترتب على ذلك رؤية جديدة خاصة في المجتمع المستهلك عن الإنسان والمجتمع والتاريخ والكون ككل." ، وتمتع النموذج السائد بالوهن والضعف نسبتاً لمركزيته واحادية منظورة وهذا ما لا يدع دليل للشك كان احد العوامل الذي ادي الي تصاعد وتيرة الحرب والاقتتال بين الثقافات المختلفة ليصبح لدينا صراع متعمق الجذور علي اساس الهوية ، وهو الذي تنبأ به عدة مثقفين في ستينات وسبعينيات القرن الماضي حول الوحد الوطنية (هي وحدة تبدو كالخيال ولكنها صخرة صلدة، وتبدو كالحلم ولكنها حقيقة ماثلة، وتبدو كالخرافة ولكنها فكرة عميقة الجذور). مبارك زروق (1914م-1965م) وتحذيراتهم ذات الرؤية النافذة من الشر الذي قد يتفتق في حين سوء الأدارة لهذا التنوع الثقافي والخير الماثل في حسن ادارتها "إن دعم الشخصية القومية يجب أن يُعني بوضع صيغ التفاعل بين أجزاء البلاد المختلفة ولابد من إعطاء الفرص للكينونات المختلفة والثقافات المتعددة والمتنوعة للتفاهم والتفاعل في جو من المرونة، فالسيادة الثقافية من مجموعة مهيمنة أصبحت غير ممكنة في ظل تنامي الوعي بالذاتية في أقاليم البلاد المختلفة: الجنوب، دارفور، جبال النوبة، وديار البجة، ...إلخ، إلا عن طريق الحوار الواعي آخذين في الاعتبار المصالح المشتركة والاحترام المتبادل بين مكونات "السوداني" المختلفة، والتي يجب حمايتها دستورياً. ولنذكر أن السودان بأقاليمه المختلفة يواجه مصيراً مشتركاً وهذا ما تؤكده حتمية التاريخ " بروفيسور يوسف فضل
فلم تكون هذه رغائب الجموع من المثقفين البعدين عن السلطة فقد كانت ايضاً مشابهتاً لاراء بعض النافذين فيها وقد ذكر محمد عمر بشير في ورقة مقدمة للمؤتمر افريقي عن التنوع الثقافي سنة 1975 وكان حينها وزيراً للثقافة "ان الحرية والتنمية اهداف لا يمكن الوصول اليها دون قبول التنوع ،فالحاجة الملحة الان هي وضع اطارللوحدة الوطنية وتقيمه ، واضافة اطار جديد لادارة التنوع " وامتد قائلاً "ان التنوع الثقافي يعطي سياسات صحيحة ، ربما عامل توازن يخدم قضية الاندماج الوطني والاقتصادي والتنمية والحرية "الي ان رؤي وتنبؤات هؤلاء النخبة لم تترجم الي افعال حقيقة في ارض الواقع فتفتق شر الحرب ضارباً ارجاء البلاد مكسبها دماراً علي المستوي الانساني وخافضاً لعجلة التنمية ، واصبح السودان الان في عاجل الحوجة الي وقف الحرب ، ودعم الثقافة والفنون كهياكل تعبر بها الثقافات المجتمعية المختلفة عن نفسها ضمن وحدة وطنية ، وهذا لن يحدث دون سياسات ثقافية رشيدة تعطي الاولوية لهذا التنوع وان تكون مدعومة كصناعة تساعد في التنمية ، فالثقافة اليوم سلعة استهلاكية يحتاجها العالم ،والفنون اصبحت حوجة بشرية مثل الاكل والشرب ، وقد توافقت عليها دول ومجتماعات وجاءات الادارة الرشيدة للتنوع الثقافي ضمن اعلانات وعرائض دولية فعلي سبيل المثال (إن التنوع الثقافي يشكل أحد ضروريات الجنس البشري وأحد جذور التنمية،... وهو ضروري للجنس البشري ضرورة التنوع البيولوجي بالنسبة للكائنات الحية.. ولابد لمجتمعاتنا التي تتزايد تنوعاً يوماً بعد يوم، من ضمان التفاعل المنسجم والرغبة في العيش معاً فيما بين أفراد ومجموعات ذوي هويات ثقافية متعددة ومتنوعة ودينامية. فالسياسات التي تشجع على دمج ومشاركة كل المواطنين تضمن التلاحم الاجتماعي وحيوية المجتمع المدني والسلام...) . من إعلان منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) العالمي بشأن التنوع الثقافي، عام 2001م .
حملة فن ضد الحرب هي امتداد الي هذه التوجه . فالمراد منها صناعة ارادة شعبية ضد الحرب ونفس هذه الارادة لدعم الثقافة والفنون عبر سياسات ثقافية ، والمقصود هنا بالسياسة الثقافية هي التخطيط الثقافي الذي يتترجم في نظم وتشريعات تخدم تطور الثقافة و دعم كافة انواع التعبير الثقافي عن طريق المجتمع والدولة . التي تساهم بدورها في بناء السلام والتنمية الشاملة 

Comments

Popular Posts