المركزية الثقافية وعرقلة التنمية

هل فقد الفن السوداني قدرته علي جذب الحضور العالمي؟ وهل كان يمثل من قبل الثقافات السوادانية المختلفة؟ وغيرها من الاسئلة المثيرة للجدل حول طبق الفنون السودانية غير الفاتحة للشهية لكل المتابعين لمسيرة الفنون العالمية التي ولجت الي ما بعد حداثة الفنون والثقافة في أنحاء الأرض كافة.
التساؤلات هنا ليست عن الدبلوماسية الثقافية أو ترويج الفنون السودانية عالمياً، فهذا بعيد عن الواقع طرقه في الظروف الاقتصادية والسياسية التي وصلت إليها الدولة، إنما هو مناقشة في التكوين نفسه الذي يجب أن يروج له.
لا يمكن تفكيك هذه الاسئلة في مقال واحد أو حتي كتاب قد يكون بمثابة مقدمة قصيرة جدا حول خروج الفنون والثقافة السودانية من قرمطيس التجمد والحضور الضعيف التي تجعل من الطيب الصالح هو الحاضر الوحيد في أذهان العالم البعيد والمحيط عن الثقافة السودانية وأدبها وفنونها.
ولدراسة هذه الحالة السودانية الخاصة، والخاصة جداً لما تشوبها من أزمات نزاعات، وعدم تنمية واختفاء متعمد للسياسات الثقافية متوجة بالطبيعة الانتقالية التي وصف بها دستور الدولة منذ استقلالها. فهذه البلاد لم تنعم بدستور دائم كونه وفاق ديمقراطي بين الوان الطيف السوداني منذ استقلالة عن المستعمر الانجليزي.
قد يكون هذا الاستهلال مناسب لدراسة أي حالة من الدولة النامية التي اصابها داء الانقلابات العسكرية منذ انتهاء الحرب العالمية وبداية حضارة الاستعمار الجديد وكريمته العولمة، الا ان خصوصية السودان هنا تكمن حول مركزية السودان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كان احد مسبباتها دون شك الاستعمار التقليدي القديم ولحقها استمراء النخبة لهذه المركزية، ولتعريف هذه النخبة بشكل مفصل هي صنيعة الاستعمار الانجليزي التي حضرها لكي تكون بمثابة الالة الادراية التي تمسك بدولاب ادارة مشاريعة الانتاجية التي تخدم اهداف الاستعمار.
هي النخبة التي نالت في البداية اليسر البسيط من المعرفة لتستطيع خدمة المستعمر بأكمل وجه بالاضافة للمجموعات التي استفادت من هذا المستعمر اقتصاديا لتكون عصاه الطائفية للتحكم في جموع الشعب السوداني حول الموارد التي يستفيد منها الاستعمار بشكل مباشر، خرج الاستعمار من السودان في عام 1956 تاركاً هذه النخبة حاكمة، ونحن لا ننفي او ننتقص من وطنيتها انما نستنكر عليها وصولها دون عسر او ارداة شعبية كاملة تعبر عن مختلف ثقافات الشعب السوداني، فكانت تشكيلات اول حكومة منتخبة هي المجموعات الطائفية زائد قلة من المثقفين والذين نالو معرفتهم منحةً من الاستعمار، واصبحنا علي هذا الديدن العلم يورث العلم والمعرفة والثقافة والثروة والسلطة عند نخبة قابضة اسموها المحللين السودانين بمختلف المسميات فعرفها منصور خالد بالنخبة النيلية وعرفها ابكر ادم اسماعيل بالمركز العربواسلامي ليصفها اليسار باالراسمالية التبعية وغيره من المسميات الايدولجية.
في مبحث للباحث مختار العربي حول تعريف الهيمنة الثقافية لأنطونيو جرامشي، عرف الهيمنة الثقافية بأنها "ظاهرة ترمي إلى نشر ثقافة الطرف المهيمن وضرب الثقافات المحلية أو القومية من أجل سيادة نموذج واحد للتفكير ونشر قيم إنسانية معينة عميقة هو تعطيل المعقول في ثقافة معينة عن الإبداع. تسطيح الوعي أي جعله مرتبط بالسطح وذلك متمثل في الصور والمشاهد الإعلامية التي يغلب عليها طابع الإعلان الذي يستفز المشاعر ويحجب العقل بالتالي يؤدي إلى امتلاك الذوق وقولبة الفكر ومن ثم تغيير أنماط السلوك ويترتب على ذلك رؤية جديدة خاصة في المجتمع المستهلك عن الإنسان والمجتمع والتاريخ والكون ككل."
ويري جرامشي في تحليلة للهيمنة الثقافية "أن هيمنة الرأسمالية لا تنبني على القوة والمال والسلطة فحسب، بل على عامل القبول الذي تكونه ثقافة الطبقة الحاكمة في أذهان الناس". وهذا بالظبط ما يمكن قوله علي النموذج السوداني، فالنخبة الحاكمة من عام 1956 حتي الان باختلاف نوع حكمها، من الديمقراطي الي الفاشي العسكري والمسيطرة علي المنابر الاقتصادية والعسكرية والاعلامية حاولت فرض نموذجها الثقافي علي كل القوميات وبالتالي كان هو النموذج الذي تم تصديره للعالم علي أساس انه هو الثقافة السودانية المعتمدة، واصبحت الثقافات الاخري الذي لايستوي الحال بدراسة الديمغرافيا السودانية ان نسميها بالاقلية ذات منابر ضيقة يقدمها لها المركز كمنحة. وبالضرورة افقر هذا الشكل المشهد السوداني الثقافي. فالسودان الذي يتكون من اكثر من 150 قبيلة ولغات لا تحصي ولهجات تفوت الـ500 لهجة وتداخلات ثقافية مع قوميات افريقية مختلفه من غربه الذي يمتد ثقافياً الي غرب افريقيا وشرقة الذي يمتد بثقافته للقرن الافريقي كما جنوبة الذي يمتد الي العمق الافريقي وثقافات شرق افريقيا المختلفة.. هذا السودان لايمكن ان يعبر عنه نموذج ثقافي واحد قسراً. ولكن بالواقع الاقتصادي والسياسي الحالي اصبحت هذه التشكيلات الثقافية رهينة المركزية، واصبح النموذج المهيمن مهمش للمجموعات الاخري التي كان من الممكن ان تغني بفنونها وثقافتاها المشهد العام السوداني. فبدل ان تصبح "الوازا" و"الكرن" و"المردوم" ورقصة "العاجكو" و"الجالوة" والمصارعة في جبال النوبة جزء من التراث الثقافي المعتز به، والذي يمكن تطويره وخلطه مع اخريات من الثقافات السودانية المختلفة ليكون بوابتنا لفنون معاصرة سودانية تعبر بنا الي تنمية ثقافية ذات انتاج له خصوصيته السودانية ويمكن ان يصدر عالمياً ويكون جزء من الدخل القومي والتنمية الشاملة، اصبحت مجرد ادوات تلميع للسلطة في التلفزيونات المحلية.
كتب دكتور محمد عبدالحي في مبحث له عن السياسات الثقافية في السودان سنة 1988 "ان الاعتراف بالتعددية الثقافية ووتطوير التراث الثقافي ووضعه في بنية الفنون الحديثة هو اهم محددات السياسات الثقافية التي تهدف الي التنمية الشاملة" وتنبأ محمد عبدالحي ايضاً في جل بحثه بان عدم الاعتراف بالتعددية الثقافية قد يكون نذير شر بالمجتمع السوداني وبنيتة الوطنية، وهذا بالفعل ما كان مشتعل من حرب الجنوب 1955 وتفتق اكثر شراً من عام 2003 عدما طال النزاع بقاع سوادنية مختلفة.
قد تكون هذه مجرد مداخلة فنحن ليس بصدد الكتابة عن النزاعات وحلولها في السودان بل عن الثقافة والفنون كعامل اساسي في التنمية الشاملة والسلم الاجتماعي.
احترام التعددية الثقافية في السودان والاعتراف بها يجب ان يتمظهر في شكل اداري للدولة وسياساتها الثقافية، كما هو ضرورة ليكون في خطاب المجتمع المدني وطرائق عملة للتنمية الشاملة وخاصة اجهزة الدولة المختصة بالثقافة والمجتمع المدني العامل بالثقافة. فانهاء المركزية الثقافية عن طريق الاعتراف بالاخر وشمله في سياسات ثقافية بديلة وبرامج وطرق تنمية ثقافية تعطي القوميات السودانية المختلفة الدور المعلي في ادارة التحول الثقافي والبناء الوطني الثقافي من اهم الحوجات. بالاضافة الي الفدرالية في ادارة الثقافات السودانية المختلفة فتكون لها ما يكفيها لتعبر عن نفسها وتكون مشاركة ومنافسة بفنونها وبثقافتها وبتطويرها لتلك الثقافات. ليكون لدينا طبق ثقافي سوداني فاتح للشهية المحلية والعالمية، ومن ثم يمكن ان نتحدث عن دبلوماسية ثقافية ودعم الفنون الحديثة.


Comments

Popular Posts